الوجوديّة - بعدَ طولِ تأمّل – د. عبد الله إبراهيم

photo ٢٠٢٤ ٠٥ ٢٩ ١١ ٠٠ ١٦

     بدأتُ بقراءة أعمال سارتر منذ منتصف سبعينيّات القرن العشرين، حين كانت الوجوديّة مزاج تلك الحقبة الزّاهية؛ عصر ثقافي صاخب شهدتُ أفولَه بالتّدريج، بعد أن شُغل به أهل الثّقافة. وبحسب ما علمتُ، بعد ذلك، فإن العقد الّذي سبق ذلك هو عقد ازدهار الوجوديّة في المجتمع الثقافي العربي، بعد أن شرع في الانحسار في أوربا، وما لبثتْ أن انطفأتْ أنوار الوجوديّة، بظهور مدارس ما بعد الحداثة، كأنّ الملايين لم تُشدَه بها في طول العالم وعرضه. وعلى الرّغم من ذلك، ما برحت أطياف الوجوديّة تبرق في ذاكرتي كالشّهب في سماء معتمة.

     كنتُ شابًّا عنيدًا في جماعة كركوك الثّانية، شبه البوهيميّة، وتطنّ في أذني أخبار الوجوديّة مثل قرع الطّبول، وتحفر في خيالي وعقلي، وما برأت منها إلّا بمشقّة. أتكون وشما راسخا يتعذّر محوه، وعلامة على حقبة ذهبيّة؟ أم تكون جذاما اهترأ بسببه عالمي القديم، وتآكلت أجزاؤه، فراحت تتساقط سنة بعد أخرى؟ ما عدتُ أميّز بين هذا وذاك. مضى وقت طويل، ابتعدتُ فيه عن كلّ ذلك، حتّى ما عاد التّفريق متَاحًا بين ما إذا كانت الوجوديّة علامة لهويّة ثقافيّة مكتسبة، أم داء وبيلا اقتلع كلّ ما سبقه، أم مزاجا مُسكرا غاص الجميع فيه.. كأنّني الآن أكتب عن أصداء تلك الحقبة في ذاكرتي.

      افتتحت "سارّة بكول" كتابها (على مقهى الوجوديّة) بما شاع من "أنّ الوجوديّة مزاج أكثر منها فلسفة"، قول يستوعب حال الوجوديّة في الثّقافة العربيّة أكثر ممّا يستوعب حالها في الثّقافة الغربيّة؛ فعلًا، لا ثمار فلسفيّة للوجوديّة، فهي مزاج شاع بقوّة جامحة خلال ربع قرن، مزاج أوهم النّاس بهويّات فرديّة مميّزة، غير أنّها كانت مائعة ومبهمة، وفيها يكون المرء مدّعيًا أكثر منه فاعلًا، مزاج قاتم من السّأم الغامض، أحال كثيرًا من المثقّفين إلى شبه رميم. في الوقت الّذي طوى فيه الفرنسيّون ملفّ الوجوديّة بأحداث طلبة الجامعات في عام 1968، فتحت مصاريع أبوابها في الثّقافة العربيّة، وكأنّها وُلِدت لتوّها، وأهلكَ القومُ أنفسَهم في طلبها، كدأبهم في المحاكاة في كلّ زمان ومكان.

     وقد لحقتُ أنا بذيل الرّكب متنطّعًا، وحسبتُ نفسي وجوديًّا حتّى النّخاع. ومن نافل القول أنّ الوجوديّة العربيّة لا يكاد يربطها رابط بأصولها الفرنسيّة، فقد أمست عقيدةً، لها منابر ليليّة، فيها خليط من وعظ وإرشاد وتلقين، يصمّ الآذان في حانات تنبعث منها روائح الدّخان والخمور، ويكاد يكون نسخة طبق الأصل لأجواء المقاهي الّتي استوطنها الوجوديّون في الحيّ اللّاتيني خلال الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن العشرين، وكانت لها صحف تبشّر بها، ودُور نشرٍ تتلقّف ما يُكتَب عنها، وكتّاب يتباهون بكونهم في قافلتها، وذلك المناخ هو الّذي خلع الشّرعيّة على الكاتب الوجودي العربي آنذاك.. لقد كان سارتر بمثابة قدّيس ضالّ في عالم فقد إيمانه.

      كان مدخلي إلى الوجوديّة، وإلى عالم سارتر، هو رواية (الغثيان)، فهي أوّل ما قرأتُ له، بعد أن طفح كيلي بأخباره، رواية مستغلَقة، تكاد تسدّ النّفس، لغياب الأحداث الواضحة، وتضخيم التّأمّلات الّتي تزدري العالم، وتتضجّر منه. ربّما وجدت الغثيان طريقها إليّ لشعوري بالسّأم في شبابي، أو أنّني سعيْت إليها لموافقتها ما كنت أشعر به من استياء، فقرأتُها كأنّها تنوب عن حالي، في سياق مرحلة مضطربة من عمري، لقد كانت تستجيب لذلك الهوى الّذي زعزع كلّ يقين. انكبّ "أنطوان روكنتان" على كتابة يوميّاته، بدل الانصراف إلى موضوع بحث يعدّه عن شخصيّة تاريخيّة عاشت قبل أكثر من قرن، شخصيّة "الماركيز دي رولبون". و"روكنتان" رجل وحيد، ويائس، ولا يتمكّن من قهر سخطه إلّا بالمداومة على كتابة يوميّات تعبّر عن مشاعره وخواطره: "أعيش وحيدًا، وحيدًا كلّ الوحدة، إنّني لا أتحدّث مع أحد أبدًا، لا أتلقّى شيئًا، ولا أعطي شيئا". انجذب الشّباب من أمثالي إلى تقمّص ذلك الضّرب من الشّخصيّات الّتي تدّعي أكثر ممّا تفعل.

      بطل الرّواية، رجل أعزل انبتّت صلته بالعالم من حوله، فانتهى بأن رأى العالم شيئا من العدم، وهو الكائن الوحيد الموجود؛ كونه يعي وجوده، ويلازمه ضرب ثقيل من الغثيان إلى أن يصبح هو بذاته الغثيان. صوّرت الرّواية عزلة بطلها الّذي هجرته حبيبته، واختلّ توازنه، فراح يعزّي نفسه بكتابة اليوميّات، ويواصل البحث، في مكتبة المدينة، عن حياة ذلك "الماركيز" الّذي طواه النّسيان، دون أن ينجذب إلى موضوع بحثه، وهو موضوع عقيم لمن خاض معترك البحوث الأكاديميّة المشابهة لما كان يقوم به، فما النّفع في إعادة بعث سيرة رجل طوي ذكره في سجلّ التاريخ، إذ ينبغي للكاتب أن يكتب عن تجربته في الدّنيا؟! في نهاية الرّواية يتخلّى "روكنتان" عن بحثه، وينتهي إلى أنّ مجمل يوميّاته تشكّل قوام رواية الغثيان، وبها يريد أن يقع تعريفه روائيًّا لا مؤرّخًا، ويرغب في أن يزهو بعمله، ويفتخر، ويشار إليه بالبنان. ذلك الاستبدال في تعريف هويّته، ينقله من رتبة الكتابة عن غيره، إلى رتبة الكتابة عن نفسه، وهو يعبّر عن الإبدال الثّقافي الّذي جاءت به الوجوديّة لإحلال الفرد محلّ الجماعة، ووصم الأغيار بالجهل، فالآخرون هم الجحيم، أو أنّ الجحيم هو الآخرون، في قول ورد على لسان شخصيّة في إحدى مسرحيّات سارتر، لذَا لا بدّ من الاحتفاء بالذّات الفرديّة، وقطع صلتها الواهنة بالعالم.

      أراد سارتر، في الغثيان، أن ينتقد الحال الّتي يغوص بها الإنسان في طيّات الماضي، وينسى الحاضر؛ فيفقد هويّته، ولا تكون لديه مسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه غيره، بل تكفيه شراهة البحث في أعمال غيره، ولأنّ "روكنتان" ضلّ طريقه في شعاب الحياة، فقد لاذ بتدوين يوميّاته، ليعثر على ذاته الضّائعة، والرّواية ذاتها بدأت بالفقرة الملفتة الآتية: "سيكون من الأفضل كتابةُ الأحداث يوما فيوما، وتسجيلُ يوميّات تتيح مواجهة الأمور بوضوح، وينبغي تجنّب إهمال الفروق ودقائق الأمور الصّغيرة، حتّى ولو كانت تبدو لا قيمة لها، وينبغي خصوصًا تصنيفها؛ يجب أن أقول كيف أرى هذه الطّاولة، والشّارع، والنّاس، ورزمةَ تبْغي، ما دام "هذا" هو الّذي تغيّر. يجب تحديد مدى هذا التغيّر وطبيعته تحديدًا دقيقًا".

       ليس المهمّ ابتكار حدث سرديّ واضح المعالم، بل إفساح الطّريق أمام تدفّق التّأمّلات عن العالم الّذي يعيش فيه "روكنتان" وحيدًا، وهو ينازع البحث عن هويّته فردا في عالم لا معنى له. إذ لا فائدة في أن يخوض الإنسان مشاقّ الحياة، إنّما ينبغي له أن يسعى إلى فهمها، واستخلاص العبرة منها، وبيان تأثيرها في نفسه، واستكشاف بواطن أفكاره.

      في قراءتي، تلك، للرّواية، غابت عنّي دلالة الافتتاحيّة، ويصعب الآن تغليب ما سأقوله عن أثرها في نفسي، بعد انقضاء نحو خمسين سنة على ذلك؛ فقد بدأتُ تدوينَ يوميّاتي في شتاء عام 1976، واستمرّ التّدوين، دون انقطاع، إلى الوقت الّذي أكتب فيه هذه السّطور، فاستقام لديّ منها الآن خمسة عشر مجلّدا بآلاف الصّفحات، وكأنّها، في وجه من وجوهها، تعبيرٌ عمّا ذكره سارتر في أوّل فقرة من الغثيان. ولست على بيّنة إن كنت قد قرأت الرّواية لأنّها توافق النّهج الّذي بدأته لِتَوِّي في كتابة يوميّاتي، أم أنّني شرعتُ في تدوين يوميّاتي بتحفيز منها.

      لم تخطر لي الفكرة قبل الشّروع بكتابة هذه المقالة في أوّل خريف 2022، ولستُ قادرا على فهم الحالة الّتي دعتني إلى ذلك، وحينما سعيتُ للتّأكّد منها انسدّ الباب في وجهي، أيكون فضولي هو الّذي أغراني بقراءة ما يحفّز شروعي في كتابة اليوميّات؟ أم أنّ متن الرّواية هو الّذي زرع تلك البذرة في خاطري؟ أم أنّني جاريتُ أقراني في لزوم الاطّلاع عليها؟ الأخذ بالحقيقة الأولى يفضي إلى غير ما يؤدّي إليه الأخذ بالثّانية؛ ففي الحالة الأولى، تكون "الغثيان" قد اندرجت في الخطّة الاسترشاديّة لقراءاتي، وفيها تحتلّ اليوميّات، والمذكّرات، والسِّيَر الذّاتيّة مكانا مهمًّا، عندئذ يكون ذهابي إليها لأنّها تستجيب لتوقّعاتي، وتوافق خطّتي. وفي الحالة الثّانية، تكون الغثيان قد بذرت ما أحسب أنّه أهمّ ما أتوفّر عليه من نتاج كتابي خامّ، وأقصد به: يوميّاتي، الّتي غطّت نحو خمسة عقود من حياتي، فيكون فضل سارتر عليّ عظيمًا، فضلًا لا يقَدَّر بأيّ ثمن، وإن كان السّبب الثّالث هو الّذي دفعني إليها، أكون بذلك قد جاريتُ القطيع في ما أرغمني عليه، وغطستُ في المزاج الوجودي قبل الاطّلاع عليه.

     وأيّا كانت الحال، فقد فات أوان القطع في أيّ الأسباب هو الصّحيح، وإن غاب عنّي البحث في ذلك من قبل، فهو مهمّ على المستوى الشّخصي، ولكنّ الاطّلاع على رواية الغثيان في تلك المرحلة المبكّرة من حياتي أحدث هزّة عنيفة في عالمي تساقط إثرها كثير من مكوّناته؛ فبها ولجتُ عالم الوجوديّة الّذي كنت أشعر به ولا أعرفه، كأنّ الغثيان خدشت الغطاء الهشّ لذاتي، ثمّ كسرت القشرة الّتي حسبتُ أنّها صلبة، وإذا بالعالم الشّعوري أوسع بكثير من العالم المرئيّ.

     بكتابة الغثيان، ظنّ سارتر أنّه أتى برواية لم يُسبق إليها، فقد كان يحسب نفسه عبقريًّا، ولا خيار له إلّا أن يكون كاتبا يُشار له بالبنان، ومن أجل تحقيق ذلك، عليه استكشاف الدّنيا، وشاركته "دو بوفوار" ذلك الاعتقاد. ولمدّة طويلة حسِب أنّ الغثيان هي الدّليل على عبقريّته، ولم يأتِ ذلك عن فراغ، فحينما ذهب إلى برلين، لدراسة الفلسفة، انكبّ على الكتابة؛ حيث كان يقرأ تأويلات "هوسرل" للمؤلّفات الفلسفيّة، نهارًا، وينكبّ ليلًا على الكتابة السّرديّة؛ فأنجز المسوّدة الأولى للغثيان على دفتر ملاحظات عثر عليه في عربة قطار، وجعل بطلَها صورة سرديّة منه، وداوم على تعديلها بعد ذلك، وكان عنوانها الأوّل "كآبة" أو "سوداويّة"، وشُغِل بها أربع سنوات، ثمّ قدّمها للنّشر تأكيدًا لشعوره بأهمّيّتها الفائقة، لكنّ النّاشر ردّها إليه، وامتنع عن قبولها، فأُصيب سارتر بالإحباط؛ إذ لا يجوز رفض أعمال العباقرة من أمثاله، واكتأب حتّى ذرف الدّمع حزنًا على حاله المتردّية. وكان النّاشر قد طلب إجراء تعديلات جوهريّة في الرّواية، وإلّا تعذّر نشرها، فتولّاها صاحبها بالتّعديل ثلاث مرّات كمن يتجرّع السّمّ.

     نُشِرت الغثيان، بعد لَأْيٍ، في ربيع 1938، والنّاشر هو من أراد أن يكون عنوانها "الغثيان"، وبظهورها انبعث إيمان "سارتر" بعبقريّته من جديد بعد يأس، وراح يتباهى بها في محافله الشّخصيّة، وكتب لــ"سيمون": "اليوم تمشّيتُ في الشّوارع مثل كاتب". كانت به عجرفةُ روائيٍّ مبتدئ رأى في نفسه فاتحًا لتيَّار جديد في السّرد، وقد لانتْ تلك العجرفة بمضيّ السّنين، وفي مرحلة لاحقة ما عاد متشبّثا بالعبقريّة الّتي افترض، من قبل، أنّها لا تقبل بأيّ تغيير. ومع تقدّم العمر توارى شعوره بالعبقريّة الأدبيّة، وعزف عن قراءة الرّواية، حتّى انتهى إلى القول بأنّ: "الأدب نوع من الهراء".

      وفي العقد الأخير من حياته أقرّ أنّه "روائيّ فاشل" لأنّه لم يَحْظَ بالتّقدير الّذي توقّعه في مقتبل عمره، وتداخلت عليه الأمور، واضطرب حاله، حتّى أنّه أنكر أهمّيّة الرّواية الّتي دشّن بها سمعته الأدبيّة والفلسفيّة، فصرّح يقول: "لم أعد أعرف السّبب الّذي يدفع النّاس إلى كتابة الرّواية". وذلك ما خلص إليه "نابوكوف" الّذي لم يرَ في الغثيان شيئا يستحقّ التّقدير؛ فهي تبدو متماسكة في الظّاهر غير أنّها ضحلة في العمق، خيالها عقيم، وبطلها عاجز، وهو يتأمّل ولا يفعل. ولو علمتُ برأي "نابوكوف" إبّان خطواتي الأولى صوب الوجوديّة، لأعرضتُ عنه، وطويتُ صفحته، فقد كنت أسيرَ الدّهشة، والذّهول، والانقياد لمجتمع القرّاء في ذلك الزّمن الّذي كانت القراءة فيه مفخرة، ووجاهة، لكنّني اطّلعت عليه في وقت متأخّر جدًّا، حينما تغيّرت وجهة نظري بالوجوديّة وميراثها.

      ولكن مهلًا، فغايتي ليست التّحليل الشّامل لرواية الغثيان، إنّما، بإغراء منها، أقحمتُ نفسي في عالم الوجوديّة، فثنّيتُ بقراءة رواية (دروب الحرّيّة) بأجزائها الثّلاثة: سنّ الرّشد، وقف التّنفيذ، والحزن العميق. وهي أثر سرديٌّ طويل عن معنى الحرّيّة، وعن المشاقّ في طَرْق أبوابها، وملامسة أطيافها، بدأ "سارتر" بكتابة جزئها الأوّل في بداية الحرب العالميّة الثّانية، حينما كان يؤدّي خدمته العسكريّة، في وحدة "الأرصاد الجوّيّة "في إقليم "الألزاس" على التّخوم الألمانيّة الفرنسيّة، وهو إقليم جبلي متنازَع عليه منذ القدم بين الأمّتيْن، ومبعث خلاف بينهما مرّةً بعد مرّة.

       جعل "سارتر" بطلَ الرّواية، ويُدعَى "ماتيو"، يتعثّر بدروب متقاطعة للحرّيّة، ولا يعثر على طريقه إلّا في نهاية جزئها الأخير، حينما باشر إطلاقَ النّار على أعدائه، ووقع تأويل ذلك على أنّه صفّى حسابَه مع ماضيه؛ فقد كان ينشد حرّيّته الفرديّة، أي: حرّيّته الوجوديّة، الّتي لا ينبغي لها أن تتقيّد بقيد، إنّما تكون مسؤولة عن أفعالها، وتلك هي فرضيّة الفلسفة الوجوديّة، وقد تسرّبت إلى معظم أعماله.

       حاول سارتر اختبار مفهوم تلك الحرّيّة على شاشة كبيرة من الأحداث، الّتي تُقحم الأفراد في اختيارات صعبة، فتتكشّف أحوالها على خلفيّةٍ من تلك الأحداث، حيث صوّرت الأحوال الاجتماعيّة عشيّة الحرب العالميّة الثّانية، وفي أثنائها، وكانت حقبة حبلى بالأحداث الجِسام، وفيها وُضع "ماتيو" تحت مجهر التّشريح من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي، بمراحل جسّدتها الثّلاثيّة مرحلة بعد أخرى. فهل يتحمّل مسؤوليّة علاقته الجنسيّة بــ"مارسيل" الّتي أثمرت جنينا؟ أم أنّه يلوذ بالفرار متنصّلا من المسؤوليّة؟ في الحالة الأولى، تكون الحرّيّة مهمّة عامّة يؤدّيها الفرد جرّاء عمل قام به، وفي الثّانية، تكون فعلًا أنانيًّا ينزع فيه المرءُ المسؤوليّةَ عن نفسه؛ بادّعاء كونه حرًّا في أفعاله. وقد لجأ "ماتيو" إلى الضّرب الثّاني من الحرّية، حيث لم يتحمّل عبء فعله، معتقدا أنّه، بذلك، حقّق حرّيّته، غير أنّه، في الواقع، فقد الحرّية الّتي بها تتحقّق هويّة المرء؛ فلا عجب أن يتخلّى عنه الآخرون، لأنّه انكفأ على ذاته، متوهّمًا تحقيق حرّيّته، وذلك هو موضوع "سنّ الرّشد".

     وعلى خلفيّة تضخّم النّوازع الفرديّة للشّخصيّات، لاحت نُذُر الحرب، فشملت "ماتيو"، في البدء، حالة الفزع الجماعيّ، الّتي وضعت الشّخصيّات أمام سؤال عن مصيرهم حال اندلاعها، وقد مسّه الخوف كما مسّهم، غير أنّه ما لبث أن اختار موقفا آخر، واضعًا حرّيّته موضع الفعل في الدّفاع عن بلاده؛ فقدره أن يكون حرّا في الدّفاع عن بلاده، وبموقفه ذاك اختلف عمّا كانت عليه حرّيّته إبّان علاقته بـ"مارسيل". ومع أنّ الحرب لم تندلع بعدُ في الرّواية فإنَّ أسئلة الحرّيّة بدأت تتفاعل جرّاء المخاوف من اندلاعها، وذلك هو مضمون "وقف التّنفيذ"، ثمّ أنّ الحرب وقعت في السّرد، وكانت قد حدثت في الواقع، واستُبيحت الأراضي الفرنسيّة من قبل الألمان، ووقع "ماتيو" أسيرًا، وتلك واقعة "الحزن العميق" الّتي ضربت بلاده في الصّميم.

      ومع ما آلت إليه حاله من أسى، فما برح يرى في الحرّيّة مسؤوليّة فرديّة، حتّى وهو في أقفاص الأسر؛ آنذاك، فحَسْب، وحينما أمست بلاده محتلّة، شعر بهويّته الفرنسيّة. ثم تمكّن من انتزاع حريّته، وقاد جماعة من رفاقه للقتال، وباشر في إطلاق النّار على الأعداء، وعلى الأخطاء الّتي اقترفها من قبل وكأنّه بفعله ذاك قد نزع الحزن عن بلاده، وفي الوقت عينه تطهّر من آثامه، وصاغ مفهومه للحرّيّة. وقد ظهر الجزءآن: الأوّل والثّاني من "دروب الحرّيّة" في خريف 1945، بعد أشهر من نهاية الحرب في أوربا، وتحرير فرنسا، وتأخَّرَ الثّالث سنوات قليلة بعدها.

     لم يخامرني التّوجّس من الإقدام على قراءة الثّلاثيّة، كما حدث مع الغثيان، فالمشاهد السّرديّة الواسعة، والحوارات المسترسلة، وتشعّب الأحداث، وتكاثر الشّخصيّات، لم تكن غريبة عليّ، إذ كنت منغمسا في عالم الرّواية الرّوسيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة في القرن التّاسع عشر، وإن كانت الأسئلة المندسّة في تضاعيفها لم ترُق لي، وما راقت لي أيّ أسئلة في سياق السّرد بعد ذلك. وفي ضوء الجدل العارم، آنذاك، حول الوجوديّة، وعدِّها خيار العصر الحديث، مضيْتُ في قراءة ما عثرتُ عليه من مؤلّفات سارتر، فهو قطب دائرتها، وعلمها الّذي لا يعلو علم عليه؛ فقرأتُ مجموعة قصصه (الجدار)، ثمّ سيرة طفولته (الكلمات)، وفيها استبطان للعالم الّذي عاش فيه وهو دون العاشرة من عمره، وقد تكون الأكمل بين مؤلّفاته الأدبيّة، وقد صدرت في بواكير 1964. بدت الطّفولة أصلا ثمينا من أصول مفكّر توغّل في شؤون العالم، ونسي نفسه، وعلى غرار ما شُغل بطفولته المبكّرة، انصبّ اهتمامه على طفولة بعض الكتّاب الّذين خصّهم ببعض مؤلّفاته بعد ذلك.

      كان سارتر ملء السّمع والبصر، لا يكاد يغيب إلّا ليحضر، ولا مفرّ من العثور عليه بقليل من الجهد في أيّ مكتبة، وفي أيّ حوار بين المثقّفين. وإن كنتَ لا تراه، فهو يراك، وإن كنت لا تشعر به، فهو يشعر بك، وإن كنت لا تجده، فهو يجدك؛ واحتلّ مكانا في أذهان القرّاء، ويتظاهر كثيرون من أمثالي بحمل مؤلّفاته في أثناء التّجوال في الأسواق، أو الجلوس في المقاهي، تفاخرًا، وزهوًّا، وادّعاءً. ومع سيل أعماله الوافدة إلى العراق من دار الآداب في بيروت، وانغماسي بعالمه، كما هو حال جيلي، والجيل الّذي سبقني بعقد من الزّمان، فقد تحاشيت قراءة مسرحيّاته، وهي كثيرة، إلّا واحدة أو اثنتين؛ يعود ذلك إلى ضعف صلتي بالآداب الدّراميّة، وشغفي بالسّرديّة منها.

    ولمّا كان دأبي الانكباب على أعماله السّرديّة والنّقديّة فقد أعرضتُ عن مؤلّفاته الفلسفيّة مرغمًا، لعجزي عن استيعابها، على الرّغم من أنّ الأُولى أقرب ما تكون إلى مرايا محدّبة للثّانية، ومع ذلك اقتنيتُ كتابه (الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظّاهراتيّة) بثمن باهظ، وهو مجلّد سميك أزرق اللّون، بزهاء ألف صفحة، بدأ سارتر في تجميع مادّته الأوّليّة في بداية الحرب، حينما كان مجنّدا في "الألزاس"، وواظب بعد ذلك على تحريره في الأَسْر. لم أتجاسر إلّا على قراءة بضعة فصول منه، حيث كان يصدّني كالقنفذ؛ وفشلت محاولاتي التّوغّلَ فيه، وأشكلت عندي حدود المفاهيم الواردة به، وقد وضعها المترجم، عبد الرّحمن بدوي، في أوّل الكتاب، وشرحها بغموض زادها إبهاما، وبقيَتْ مستغلَقَة عليَّ حتّى الآن.

     ظلّ كتاب "الوجود والعدم" رابضًا في صدر مكتبتي، إلى أن احترق بإحراقها، في ربيع 2015، كان كلّما اقتربتُ إليه صدّني، ودفعني إلى الوراء، حتّى أمسيتُ أتجاهله، وربّما أخشاه، وهو أشبه بقطعة من الحجر الصّلب، لا تعرف البلى. وقد فهمتُ من صفحاته الأولى أنّ العدم هو: ما لا تفكّر فيه، أمّا الوجود فهو: ما يحوزه تفكيرك؛ قضيّة معقّدة حول الموجود لذاته، والموجود لغيره. ويحار القارئ في إدراج كتاب "الوجود والعدم" في صنف التّأليف الفلسفي الشّائع، ويعود ذلك إلى أنّ مؤلّفه اختار الأدب طريقا له في أوّل أمره، فطغت هويّته الأدبيّة على هويّته الفلسفيّة، حتّى بدا الكتاب إنشاءً مغلقا على وصف الذّات، وغير متّصل ببحر الفكر الفلسفي الواسع.

     وقد وجدتُ "ريكور" يشاطرني الرّأي في قوله: أنّ الكتاب لم يثر في نفسه غير قليل من الإعجاب الباهت، ولم يقتنع، على الإطلاق، بما ورد فيه من أفكار. وفضلًا عن المؤلّفات السّرديّة الّتي ذكرتها، راقت لي مجموعة الكتب الّتي أصدرها بعنوان (مواقف)، وهي ليست قليلة، ثمّ كتبه المتفرّقة الأخرى: عن الخيال، والانفعال، والأدب. فقد واظبتُ عليها بخيرِ ما تكون عليه المواظبة، وفي طليعتها (جمهوريّة الصّمت)، وفيها تجلّى سارتر بما كان يستجيب لتوقّعاتي، قارئًا شابًّا له.

      وليس في مقدوري تخطّي الحديث عن كتاب عجزت عنه، فبعد مدّة طويلة من ذلك عرفت بأنّ سارتر كاد يطابق، في (الوجود والعدم)، الخطوطَ العامّة لكتاب "هيدغر"(الكينونة والزّمان)، والكلمتان في عنوانيْ الكتابيْن واحدة، ودلالتهما عند الاثنين متقاربة. وعلى عكس اللّغات الأوربية، فقد جرى التّفريق النّسبي في ما بينهما باستخدام لفظيْن مختلفيْن للمعنى ذاته. اطّلع "سارتر" على كتاب هيدغر قبل الحرب، ولكنّه انكبّ عليه إبّان أسره، وتلقّاه أسيرًا بغير ما اطّلع عليه طليقًا، فأمسى دعامة من دعامات مشروعه الوجودي. وفي الأسْر شرع في تنفيذ مخطّط الكتاب، وصار معروفًا أنّ التّابع الفرنسي استقى ظلال المفهوم من المتبوع الألماني، حتّى أنّ "هيدغر" في رسالة كتبها لـسارتر بعد الحرب، أقرّ بتأثير كتابه في كتاب سارتر، في قوله: "يسيطر على كتابك فهمٌ مباشر لفلسفتي، فهم لم أصادف مثله من قبل". من الصّعب أن يُفهم قول هيدغر على أنّه تقريظ لكتاب سارتر، إنّما على أنّه أحد مسوخ كتابه، ويُروَى أنّ هيدغر نَعتَ كتاب سارتر بأنّه نفاية، وسخر من ضخامته.

      وبحسب دوبوفوار، كانت عدّة سارتر الفلسفيّة شحيحة حينما دبّج أصول الكتاب، فلم يكن قد توسّع في المعارف الفلسفيّة والنّفسيّة، حتّى أنّه لم يكن قد اطّلع إلّا على كتاب أو كتابيْن من كتب "فرويد"، الّذي غادر لتوّه الدّنيا منفيًّا في لندن، وما وقع له مع فرويد حدث مع "نتشه" الّذي كان آنذاك خارج مدار اهتمامه. لم يمكث سارتر طويلًا في الاعتقال؛ فبذريعة الحاجة إلى علاج عينيْه الكليلتيْن التمس زيارة طبيب عيون خارجَ المعتقل، وغادره يتعثّر ببصر واهن، ولم يعد إلى المعتقل. وعلى أيّ حال، هو لم يكن سجين حرب ذا بال، ولم يؤسر في سُوحِ الوغى، إنّما وقع، إبّان الاجتياح الألماني للإلزاس، جمعُ جنود الأرصاد الجوّيّة غير المحاربين، وسارتر من بينهم، وأُودِعوا في المعتقلات بحسبهم غير محاربين.

      لكن كيف كانت أحوال سارتر قبل ذلك، وما مواقفه؟ في النّصف الأوّل من الثّلاثينيّات، وإبّان صعود هتلر الّذي أحكم السّيطرة على ألمانيا، لم يبد سارتر أيّ مخاوف من قدوم النّازيّة، الّتي كانت قد أقضّت مضاجع معظم المفكّرين، والأدباء، والفنّانين في العالم. كان مشغولًا بالحواشي الّتي بدأت تفرزها "الفينومينولوجيا" الألمانيّة، وراح يعتاش عليها بدأب، ويعيد إنتاج نسخة فرنسيّة عنها بخلاصات وجدت طريقها للصّوغ وإعادة الصّوغ في (الوجود والعدم)؛ لم يساوره القلق من صعود الموجة النّازيّة، وبدا أنّه غافل عمّا كان يدور تحت بصره، حتّى وهو في برلين؛ فما كان قد استحكم في نفسه هو أن يشقّ طريقه أديبًا وفيلسوفًا ينهج نهجا خاصًّا في وصف ما يتراءى من ظواهر العالم، وليس الغوص في تحليل ما يدور من حوله.

     كان سارتر يبحث عن بطانة "ظاهراتيّة" لأعمال سرديّة تبيّن علاقة الشّخصيّة بالأشياء أكثر من غايتها في فهم طبيعة تلك الأشياء، فذلك لم يكن في مناله، وبدأ يقتات من الجدل الّذي كان يدور حول التّأويلات "الظّاهراتيّة" للفكر الفلسفيّ في ألمانيا، ووجد ضالّته فيه، سواء في ابتكار شخصيّة "روكنتان"، الّتي هي صورة من صوره التّأمّليّة في العالم المحيط به، أو في الخلاصات المسترسلة الّتي كان يدوّنها بإيحاء من أعمال "هوسرل"، و"هيدغر". في برلين، كان يقرأ ويلخّص، ويجمع، ويفرّق، وقد أعوزه الابتكار، ولم يُشغل باليقظة القوميّة في ألمانيا، إذ كان يرضع بعض حليبها في برلين، وكأنّ ما يدور فيها خارج اهتمامه، ولم يخامره الارتياب بما كان يقع من أهوال إلّا بعد أن أحكم هتلر قبضته على ألمانيا في منتصف الثّلاثينيّات.

      انبثقت النّازيّة من براثن عالم متفكّك، ولم يلتفت لخطرها القادم إلّا عدد قليل من المفكّرين، ولم يكن سارتر من بينهم؛ كان مشغولًا بالمزاج العدمي لعالم ما بين الحربيْن، ويريد لنفسه أن يكون راصدًا لظواهره، رصْد من ربض في مكانه مؤوّلًا، فنرجسيّة "روكنتان" كناية سرديّة عن عجز سارتر عن تفسير ما كان يقع تحت نظره، كأنّ العاصفة الّتي تتشكّل تحت الأنظار غير مرئية أو غير لافتة لنظره. عبّرتْ "حنّا أرنت" عن شيء من هذا الأمر في تحليلها لأحوال النّاس آنذاك بقولها: "إذا لم تستجبْ بما يكفي في الأوقات المطلوبة، فأنت تكشف عن فقر في الخيال والاهتمام، وهو خَطِر خطورة اقتراف إساءة عمديّة".

      كانت تلك حقبة مبهمة، تلاشت فيها مقاومة النّاس بالتّدريج، وتلاشى معها الإدراك بالخطر. والبطل الوجودي الصّاعد آنذاك، كان بمنأى عمّا كانت سوف ترتعد له الأبدان، كان مشغولًا بسأمه وقرفه من عالم رتيب، لا يستجيب لتوقّعات رجل أعزل استبدل المشاركةَ بالتّأمل في أحواله الجوّانيّة، وتلك نزعة قوبلت بالاحتفاء عشيّة الحرب العالميّة الثّانية، وازدهرت بعدها، حيث كان وهْمُ الهويّة الذّاتيّة في تضخّم منقطع النّظير، وهْمٌ ادّعى كشف معدن الأصالة القابع في كيان كلّ إنسان؛ ذلك هو "العدم" الباحث عن "الوجود".

      وتتعذّر الإحاطة بالوجوديّة دون رسم السّياق الحامل لها، وموقع سارتر في ذلك السّياق، فقد ارتسمت الملامح الأولى لأفكاره قُبيْل الحرب العالميّة الثّانية، واتّخذت لها لبوسا أدبيّا في بداية الأمر، لكنّ احتجازه في معسكر داخل الأراضي الألمانيّة، وفّر له فرصة للتوسّع فيها. فخلال عزلته القسريّة، أحاط بشيء من الفلسفة الألمانيّة الحديثة، وهي فرصة قليلة الحدوث لأسرى الحروب -حدث ذلك بحذافيره تقريبا لـ "ريكور" الّذي انكبّ على الفلسفة الألمانيّة خلال أسره، فسارتر" لم يكن مجنّدا في الكتائب المقاتلة، بل كان قارئًا لسرعة الرّياح، في وحدة الأرصاد، لذلك وقع التّساهل معه، ولم يتعرّض لما تعرّض له الأسرى المقاتلون، وحينما أفرغ النازيّون سجونهم من المدنيّين غير المؤهّلين للعمل العسكري، فزوّر هويّة مدنيّة، وبالغ في ضعف بصره أثناء الفحص، ثمّ تسلّل متخفّيًا، وعاد إلى باريس، بعد سنة من الاعتقال تقريبا.

      في المعتقل، جاء أحد الضّبّاط النّازيّين، بكتاب (الوجود والزّمان)، للأسير، فراح الأخير يدبّج الخطوط الأولى لكتابه (الوجود والعدم)، مستعينًا بمنهج "هوسرل"، وفيه ادّعى إنزال الفلسفة من السّماء إلى الأرض، أي: أن تكون حياة النّاس موضوعًا للفلسفة، وصبّ أفكاره الفلسفيّة في الكتاب، وتلك الأفكار بمعنًى من المعاني إعادة تأويل لأفكار فلاسفة آخرين على رأسهم "هيدغر". ولم يمض غير وقت قصير على مغادرته المعتقل حتّى انتدب نفسه لمقاومة المحتلّين بالكلمة؛ حدث ذلك لأنّه ورفاقَه كانوا أدنى من أن يقوموا بحمل السّلاح، فاتّخذوا سبيل المقاومة الفكريّة، وبدأوا في توزيع المنشورات في أزقّة باريس، حينئذ شاعت تهمة كونه عميلًا للنّازيّين، لأنّه أخبر أصدقاءه بأنّ الألمان مكّنوه في المعتقل من الاطّلاع على كتاب "هيدغر"- الّذي كان على علاقة بالنّازيّين. ثمّ أصبح بعد ذلك رئيسًا لإحدى الجامعات في أوّل عهدهم بالحكم- والشّيوعيّون الفرنسيّون هم الّذين كانوا وراء التّرويج لتلك التّهمة، لذا لم يكن سارتر، في نظرهم، مصدر ثقة، وكان ذلك الأمر جرحا بليغا طُعِن به سارتر من أهل بيته؛ وجرّاء تلك التُّهم سرعان ما تفكّك فريق المقاومة الّذي كان بقيادته.

      وعلى غير ما كانت عليه أحواله قبيل الحرب، فإنّ نشاطه الفلسفي قد غلب على نشاطه السّردي في السّنين اللّاحقة، ونشأت أفكاره النّقديّة الّتي تسرّبت إلى كتب عديدة، شكلت لبّ سلسلة "مواقف". وفي وقت متأخّر من عمره حكم على مجمل أعماله بالضّعف، ورأى أنّ الأبقى من بينها هي "مواقف"، أمّا بقيّتها فسوف تذهب أدراج الرّياح. ولكنّ حوافزه للكتابة تعرّضت للتّغيّر، وراح يتعاطى المنشّطات، الّتي أدمنها بعد الحرب، وقد كتب "نقد العقل الجدلي" تحت تأثيرها. وأفرط في الإدمان، فكان يبتلع، أحيانا، عشر حبّات، وأحيانا أخرى تصل إلى عشرين في اليوم، ولم يعد يكتفي بواحدة مثلما ما كان عليه حاله في أوّل الأمر، ومن بينها عقار "الأورتيدرين"، و"الكوريدران"، وبمرور السّنين زاد من جُرع المنشّطات، ثمّ كتب بعض مؤلّفاته تحت تأثير "الميسكالين"، وراح يسهب في الكتابة، وأمسى التّجويد عنده ذكرى منسيّة. بدأت الأحبار تلطّخ الأوراق، وتلوّث يديه وأكمامه، وتجاوز كلّ حدّ، وصار يدفع بكلّ ما يكتبه إلى المطابع فورا، فلا مسوّدة يتولّى النّظر فيها، أو تنقيحها، ومراجعتها. حتّى اعترف أنّه كان يتعمّد التّشويش على نفسه وأفكاره، ليقول ما يخطر له دون تدبّر؛ وعلّة ذلك الإفراط شبه العشوائي في التّأليف، كما اعترف بأنّه ما عاد قادرا على إكمال كتابة موضوع خطر له، أو حتّى شرع فيه، وما عاد يرى جدوى في مراجعة ما يكتب، أو تنقيحه، فذلك مضيعة للوقت، واعترف أيضا بأنّه دأب على تعاطي العقاقير المخدّرة.

     وما عرفتُ حال سارتر في سنواته الأخيرة إلّا في أوّل خريف 2022، وأنا أقرأ كتاب "دوبوفوار"(مراسم الوداع) فإبّان شغفي به في السّبعينيّات، كان التّخريف قد تمكّن منه، حتّى ما عاد يعرف رفيقة دربه، ولا يميّز بين أصدقائه؛ فيخلط بين الأشخاص والأحداث، ويتعثّر في التّعبير عن نفسه، وعن أفكاره، وفقد التوازن الّذي ميّزه عن سواه من قبل، وقد زعزعته الأمراض كلّها، وأثقلته خطوب الجسد، وأوّلها ضعف بصره، وكانت سلواه أنّه ما زال قادرًا على الإصغاء والحديث. فراحت شريكته تقدّم له العون في قراءة أعمال فلوبير، بصعوبة بالغة، وكانت ترعاه، ولا تفارقه إلّا ما ندر، وهو يدبّ في الطّريق المنحدر للحياة دون توقّف. وكتابها عنه، هو الأرشيف الأكمل للسّنين الأخيرة من حياته، وفيه أوردت بالتّفصيل الأيّام واللّيالي الّتي راح فيها نجم الوجوديّة يدلف إلى العدم، ومِن عجبٍ أنّه، وفي ذلك الوقت الحرج من حياته، بدأ بالتّحرير النّهائي لكتابه عن فلوبير، وهو بعنوان: (أحمق العائلة)؛ كتاب ضخم جعله في أربعة أجزاء، وشُغل به نحو عشرين عامًا قبل أن يعجز عن إتمامه، حيث بدأ العمل به في أوّل الخمسينيّات، وأفرط في وصف طفولة فلوبير، وظروف عمله على كتابة (مدام بوفاري)، وكأنّه لا يرغب في التّوقّف؛ فالكتابة سلوى عن طفولة بعيدة.

     وقد جاءت لغة الكتاب متعثّرة، وكانت غاية سارتر تحليل "عُصاب" "فلوبير" حسب زعمه، ثمّ أنّه لم يُتمّ الجزء الأخير منه، وقد ظهر الكتاب في ثلاثة آلاف صفحة. وطوال سنوات انصرافه له كانت "سيمون" تقدّم له المساعدة اليوميّة في العمل، بعد أن راح يتعثّر، شبه عاجز، في دروب الحياة، كما في دروب التّأليف، وقد أشارت "بوفوار" إلى أنّها قرأت الكتاب بتمامه، وحكمت بأنّه "أمتع كتب سارتر". ومع ذلك، فثمّة إجماع، بأنّ سارتر توسّع فيه أكثر ممّا ينبغي، بعد أن أمسى في خريف حياته يتحاشى الاختصار، ويرفض المراجعة، وكأنّه ينشئ كتابا لنفسه، أو أنّه يناجي رفيقته "سيمون" وجعل فلوبير ذريعة لذلك.

      أرجعت "سارّة بكويل" إقبال سارتر الشّره على الكتابة دون تركيز، ولا إكمال، إمّا لشعوره بخيلاء مؤلّف، وإمّا لحاجته إلى المال؛ لأنّه كان دائب المساعدة للآخرين، بتشجيعهم على الكتابة، أو معاضدتهم في حملاتهم السّياسيّة، وقد ظلّ يعتقد إلى نهاية حياته أنّه كاتب ملتزم. ومع الأثر الهائل الّذي تركه سارتر على خارطة الفكر الإنساني طوال عدّة عقود، فإنّ المآل الشّخصي الّذي انتهى إليه، رجلًا ومفكّرًا، وحيدًا، يثير الأسى في نفوس الوجوديّين وغيرهم، فالمتتبّع للتّدهور الّذي انتهى إليه في العقد الأخير من حياته، وقد تناوشته مصالح المحيطين به، والمنتفعين من موقعه الثّقافي، وفقد السّيطرة على إرادته، يلحظُ فيه "شخصيّة متوهّجة متّقدة ثرثارة، بدأت تتحوّل تدريجيًّا إلى شبح مسلوب البصر، وإلى حدٍّ ما السّمع، مجرّدٍ من غليونه، وكتابته، واشتباكه من العالم".

     وبتأثير من المنشّطات اضطرب نطقه، وضَعُف سمعه، وتشوّشت حواسّه، ومن عجب أنّه حينما ينصرف لكتابة الأدب لم يكن يتعاطى المنّشطات، إنّما يحتاج إليها حينما يكتب في الفلسفة، وظهر له أنّ المنشّطات تعمل عمل السّحر في إيجاد التّوازن بين نفسه وجسده، وتطلق قريحته في الكتابة الفكريّة، فيقبل عليها فرحا بعد أن أمست تتمنّع عليه. وبدل أن يستعين بالماء لابتلاع الحبوب المنشّطة كان يقضمها بأسنانه، فتبثّ الحيويّة في جسده طوال النّهار، ويقول أنّه يريد بها أن تقدح الشّمس في عقله، ولكنْ يلازمه الأرق ليلًا، فيُرغَم على التهام حفنة أخرى من الحبوب المنوّمة ليتمكّن من الخلود إلى الرّاحة، ويحشو أذنيه بالسّدّادات. وخلال النّهار الطّويل الّذي يصرفه بالعمل، كان يفرط في التّدخين، والقهوة، والخمر، وقد اسودّ لسانه بفعل العقاقير، واصفرّت أسنانه، وغالبه شعور عميق بالإحباط، لكنّه ظلّ مصرًّا على الحفاظ على هيبته في نظر الآخرين، ولم يعد يراجع ما يكتبه، فيمضي متعجّلًا بطريق لا رجعة فيه.

    ومع ذلك، وفي وسط تلك المدّة، حين شلّت قضيةُ الجزائر جسدَ فرنسا وتركته يترنّح على حافة حرب شبه أهليّة بين المؤيّدين للاستيطان والمناصرين للاستقلال، كتب سارتر مقدّمته المميّزة لكتاب "فرانز فانون" (معذّبو الأرض) الّذي وصف فيه العنف الاستعماري، والعنف المضادّ له، فقال سارتر: "إنّ علائم العنف لا يستطيع لينٌ أن يمحوها، فالعنف وحده هو الّذي يستطيع أن يهدمها، ذلك أنّ المستعمَر يُشفى من عُصاب الاستعمار، بطرد المستعمِر من أرضه بالسّلاح؛ فهو حين يتفجّر غضبه يستردّ شفافيّته المفقودة، بذلك يعرف نفسه بمقدار ما يكون قادرًا على صنعها". ومهما اُخْتُلِفَ حوله فقد شغل سارتر العالم منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية.

      وبعد أن استقامت هويّة سارتر كاتبًا روائيًّا ومسرحيًّا وفيلسوفًا، انتهى في آخر ربع قرن من حياته ناشطًا ثقافيًّا وسياسيًّا مؤثّرًا، وراح يقترب من الشّيوعيّين كثيرًا، وإن لم ينخرط في الحزب الشّيوعي الفرنسي، وغاص في معمعة القضايا الملتهبة، كالاستعمار، والاعتقالات السّياسيّة، والحقوق المدنيّة، والانتخابات، وشؤون الحياة العامّة، وانتهى الأمر به مرجعًا تلوذ به الهيئات المدنيّة والحقوقيّة، وذلك جعله يدور في أفق طموحاتها، ويستخدم تأثيره في تحقيق مصالحها، وربّما مآربها، فكان يُزجّ به في مواقف لا يعرف تفاصيلها.

      ويكشف السّجلّ الكامل لأعماله في العقد الأخير من عمره، ممثّلًا بكتاب "مراسم الوداع" الّذي حرّرته دوبوفوار بأنه أمسى ملاذًا لكلّ صاحب مظلمة، وناشطا غاضبًا، له يد في كلّ قضيّة تقريبًا، وقد تلبّسه دور المخَلِّص، ومضى فيه إلى النّهاية. وبين حين وآخر كان يختلس الوقت ليعود إلى الكتابة الّتي حلم بها في النّصف الأوّل من عمره، وبالغ في إصدار البيانات، وإعلان الإدانات، ومعظمها ذهب أدراج الرّياح، وظلّ متمسّكا بأفكاره، ولم يدْعُ إلى الأدب الملتزم بل أخذ به في كلّ ما كتب. والظّاهر أنّه وقع تضارب بين أفعاله وبين مؤلّفاته، وغلب عليه موقعه ناشطًا ثقافيًّا في نهاية المطاف، وكما قال: "كلّما انخرط الإنسان في ممارسة تجربته، شيئًا فشيئا، فقَدَ ما كان لديه من أفكار".

     ولاقتران دوبوفوار بسارتر، وارتباط مصيرهما منذ البداية حتّى النّهاية، فقد عكفتُ، أيضا، على قراءة بعض مؤلّفاتها، ومن بينها مذكّراتها الجسورة، وهي، في تقديري، أكثر حيويّة من "سارتر"، وأكثر صراحة في استلهام وقائع حقيقيّة من حياتهما، وعلاقاتهما الغراميّة المتداخلة مع الآخرين. وإن كانت تابعًا له في المرحلة الأولى من علاقتهما، فقد استقلّت بذاتها كاتبةً بعد ذلك، وتبوّأت مكانتها زعيمةً للفكر النّسوي، ولعلّها النّظير المكافئ لسارتر، وما عادت تابعةً له في العقديْن الأخيريْن من حياتهما. صحيح أنّه كان يقترح عليها بعض الموضوعات، غير أنّها كانت بارعة في معالجة ما كان يورثها القلق، ومع العشرة الطّويلة الّتي ربطت الاثنيْن، والأُلفة بالغة العمق، وتبادل شركاء الجسد باتّفاق معلن، فهي لم تذب بشخصيّة شريكها، ودارت مدّة طويلة في مداره، ولكنّها لم تنحلّ في بحره المالح.

      ودون سائر "حريم" سارتر اللّواتي تلاعب بهنّ، واستمتع بأجسادهنّ الفتيّة، بقيت سيمون امرأة ناتئة تعذّر عليه احتواء جموحها. وفي السّنوات الأخيرة من حياته، حينما وهن عظمه، وسقط في سراب الأوهام، وشدّ العزم على الرّحيل عن الدّنيا، كانت تُسمعه بعض الموسيقا الجنائزيّة، فيومئ لها أنّها مناسبة لأحواله، وكأنّها من طقوس الوداع، وجعلت ذلك عنوانا لآخر مؤلّفاتها بعد رحيله، وأكثر ما شغلها خلال ذلك، سجلّ يوميّاتها الّذي جعلته بمعظمه عن أحوال "سارتر" في ختام عمره. وقد تميزت سيمون بالقوة "وكانت إنسانا لا يقهر فعلا". وكانت تصرّ دائما على أن تكون جزءا من أية محادثة مع سارتر. استظلّت، في البداية، بظل سارتر، ثم انفصلت عنه، وكانت مستاءة من تجاهل الآخرين لها، وعدم اعترافهم بأهمية كلّ منهما للآخر، وقد ادّعت أنها أعدت أطروحة دكتوراه عن الفيلسوف الألماني "لايبنتز"، وكان ذلك محض ادعاء، فلم يعثر أبدا على تلك الأطروحة، ولم تنشر، ولم تقدّم إلى أية جامعة بوصفها بحثا لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، إنما كانت بحثا في الإجازة الجامعية حينما درست في السوربون، ولا يعرف سبب جعلها تدعي ذلك إلا بتصوير نفسها فيلسوفة.

      وانفصالها عن سارتر لا يعني انقطاعها عنه، فقد ظلّت ترعاه في شيخوخته، واعترفت بصعوبة تلبية حاجاته حينما تقدّم به العمر، فقد "تسبّبت سنوات التدخين والشرب في تصلّب شرايينه، وإضعاف دماغه، وكان في كثير من الأحيان، مصابا بالسلس، وكثيرا ما كان يتبرّز على نفسه، ولم يعد يهتم بنظافته الشخصية، وغالبا ما كانت ثيابه متسخة، وأنفاسه عفنة، ورائحته كريهة" فجعلها ذلك عاجزة عن خدمته، وقد تقدّم بها العمر أيضا، وهو ما فتح الطريق أمام الآخرين، رجالا ونساء، للاقتراب إليه، والتفاخر بمعرفتهم ب"الفيلسوف العظيم"، وانتهى الأمر بابتزازه ماليا وفكريا؛ ماليا بالصرف عليهم وعليهن، وفكريا في موافقته على ما كان يطلب إليه من مواقف ودعم. ومع تقدمه في السن، فلم يُعرض عن عشيقات صغيرات كان يتسلّى بهن، والظاهر أن دوبوفوار لم تعترض على ذلك أيضا، وبخاصة أنهما يقيمان في بيتين منفصلين، وواحدة منهن، وهي اليهودية الجزائرية "آرليت إيلكايم" انتقلت من رتبة عشيقة إلى ابنة بالتبنّي، ثم إلى وريثة وحيده لسارتر، فحازت على ميراثه.

      وحدث شيء قريب من ذلك لدوبوفوار بعد وفاة سارتر، وبظهور علائم الشيخوخة عليها، جارته في عدم الاهتمام بنفسها، وظهرت عليها بدانة الشيخوخة، وتغلّب عليها النكد في علاقتها بالآخرين. وكانت تحتسي المشروبات الثقيلة باستمرار شأنها في ذلك شأن سارتر. وبدورها اتخذت، بعد وفاة، إحدى عشيقاتها، وهي "سيلفي لوبون" ابنة لها بالتبنّي، وجعلتها وريثة لها. تحكّمت بميراثها كما تحكمت الأخرى بميراث سارتر. في عام 1983 نشرت دوبوفوار رسائل سارتر لها، وأحجمت عن نشر رسائلها له، بدعوى منع الاستئثار بها من سواها من نساء سارتر، ولأنها أرادت إثبات أنها المرأة الأهم في حياته. وقد ضمّ كتاب "ذكريات باريسية" لـ"ديردر بير" شيئا كثيرا من ذلك.

    طُوي ملفّ الوجوديّة، وحُفظ في الرّفوف العالية من أرشيف الثّقافة الإنسانيّة، ومن التّمحّل الادّعاء بأنّه قدّم حلولا ناجعة للمشكلات الجسيمة الّتي شهدها العالم قُبيل الحرب العالميّة الثّانية وبعدها بعقديْن، فقد كانت الأمم الأوربيّة تجرّ أذيال الخيبة من عنف اكتسح معظم أرجاء القارّة، وامتدّ إلى غير مكان في العالم. وكانت الوجوديّة، بوجه من الوجوه، قد تولّت تمثيل حالات القنوط واليأس الجماعي، ثمّ حالات اليقظة والتّمرّد، الّتي كانت تنبثق كالدّوّامات وسط ارتياب عامّ بما انتهى إليه العالم، وحتّى تنطُّع سارتر للمسؤوليّة الفرديّة، والالتزام بالشّأن الإنساني، لم يكن سوى نفثة غضب في عالم يتحلّل ويتعفّن.

       وربّما من حيث لم يُرد الوجوديّون، أسهموا في دفع العالم إلى صبوات جوّانيّة، بالغت في وصف ظواهر الأشياء، وأخفقت في استخلاص عِبَر منها. وقد كنتُ شاهدًا، من الدّرجة الثّانية، على ذبول تيّار عارم، قدّم وعودا كثيرة، لم يتحقّق منها إلّا أقلّ القليل، وظلّ يتعثّر، ويتشقّق، إلى أن غُلب على أمره، وبقليل من الحذر، يصحّ القول بأنّ سارتر لفّق جملة من الأفكار الفلسفيّة الغامضة، والتّأويلات المبهمة، وأسبغ عليها سمة أدبيّة، وما لبث أن أمسى ذلك الخليط فلسفةً اُصْطُلح عليها بـــ: الوجوديّة.

     ما الّذي وقع لي مع سارتر بعد تلك الموجة العارمة من الانجذاب؟ بانتهاء عقد السّبعينيّات انبشمتُ من أفكاره الملتوية، الّتي يقلّبها على وجوه عدّة، لم أتفاجأ بها، بعد أن نضب معينه، وأنا بدوري لم أعد أصبر عليه، فتوقّفتُ عن كتبه، وربّما أكون قد أُتْخِمتُ بها حتّى سئمتُ؛ ما عادت تجتذبني أفكار مبهَمَة طالها الاجترار والتّكرار، وتلاشت رغبتي في الاستزادة من شيء ما عاد جاذبًا ولا نافعًا، وقبل ذلك وقع مَنْعُ تداولِ كتبه في العراق، وخلت منها أرفف المكتبات الّتي كانت تغصّ بها، وأُشيع أنّها كتب منحلّة، وتغري بالإلحاد.

      جاء المنع بعد أن غزت الوجوديّة خيال المجتمع الثّقافي في العراق، ومع ما شعرتُ به من ضرر، بسبب ذلك القرار الّذي ينافي حرّيّة التّعبير، والحرّيّة الفرديّة الّتي نذر لها "سارتر" نفسه، فقد أمسيتُ أعدّه من مقتنيات ذاكرتي، أقرأ عنه، ولا أقرأ له، أتحدّث عنه، وأصغي إلى من يحدّثني عنه، ولم أكلّف نفسي قراءة أيّ كتاب جديد له. ومع أنّه تُوفّي في ربيع 1980، فإنّ وفاته عندي سبقت ذلك بمدّة قصيرة؛ حينما أدرتُ ظهري عنه، وأيًّا كان الحكم على ما سأقوله، فالوجوديّة مزاج ثقافيّ ونفسيّ عابر. صحيح أنّ أمواجها الصّاخبة بلغت كثيرًا من مرافئ العالم، لكنّها انحسرت بوفاة سارتر، وأضحت ذكرى بعيدة في عالم ما عاد قائما، حينما كانت أضواء الوجوديّة تخلب الألباب في قلب باريس، فيقصدها المثقّفون جاعلين من الحيّ اللّاتيني قِبْلة لهم.

      في العقود التّالية ارتفع حاجز بيني وسارتر، حال دون إعادة قراءة أيّ من مؤلّفاته، لكنّني كلّما عثرتُ على كتاب عنه أو عن رفيقته دفعني الفضول إليه، كأنّني أريد العلم بما فاتني عنه في أيّام شبابي، ولستُ أقلّل من شأنه بأيّ شكل من الأشكال؛ فقد خرّب مقوّمات عالمي القديم، وفتح لي عالم التّأمّلات الفرديّة، وقد تماهيْتُ مع "روكنتان" بعد قراءتي لـ(الغثيان)، حتّى توهّمتُ أنّ مشاعري وخواطري نسخة من مشاعره وأحاسيسه، وما خِلْتُ أن أنفصل يومًا عن ذلك الملهم الرّاديكالي، شبه الضّرير، الّذي سقط في التّخريف خلال العقد الأخير من عمره، وأدمن الكحول والتّبغ، وأنطفأ وهجه، تقوده صاحبته كالطّفل الأرعن في أرجاء فرنسا والعالم، فتُذكّره بما ينبغي قوله، وأحيانا لا يتعرّف عليها، كأنّي به "أوديب" الضّرير تقوده "أنتيغونا" المبصرة، وكان يدعوها (القندس) "كناية عن دأبها الّذي لا يهدأ". وقع ذلك لسارتر دون أن أعلم به، ثمّ أنّه أمسى كثير الإنكار لتدهور أحواله الذّهنيّة والجسديّة في آخر سنوات حياته.

       أمسى سارتر كثير النّعاس، وضعيف الذّاكرة، وشبه أعمى. وشاركته دوبوفوار الإنكار في معظم ما يخصّ حياتهما الجنسيّة، بما فيها المثليّة، الّتي لم يُكشف عنها النّقاب إلّا بعد عقود من ذلك، إثر نشْر رسائلهما الشّخصيّة. وجاء كتاب "هازل رولي" الموسوم بــ: (وجها لوجه: حيوات وحبّ سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر)

وكتاب "ديردر بير" وعنوانه "ذكريات باريسية: صاموئيل بيكيت، وسيمون دوبوفوار، وأنا" فأزاحا اللّثام عن التّجارب السّريّة الّتي تورّطا فيها بمعرفة، وبسابق علم، واصطلح سارتر على ذلك النّمط من العلاقات الجنسيّة المتبادلة بين الشّريكيْن وعشّاقهما بــ: "الشّفافيّة"، وقد وطّن نفسه على عدِّ الغيرة تملّكًا، وأقنع شريكته سيمون بذلك؛ فتجرّدا طوال حياتهما من نوازعها، أو ادّعيا ذلك كي لا يحرما نفسيْهما من مُتع العلاقات الموازية.

مقالات, عبد الله إبراهيم, الوجوديّة

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار